يوم في حياة المواطن
7386/5/م
لا تتوقعوا أن تجدوا في هذه القصة أحداثاً معقدة، وحبكة، ثم حلاً...
إنها حكاية بسيطة.. حاولوا أن تكتشفوا شيئاً من أنفسكم بين سطورها..
1 ـ مساء اليوم الثامن والتسعين
أنهى المواطن 7386/5/م آخر لقمة من عشائه، وشرب جرعة ماء وحمد اللّه، ثم تجشأ واستغفر اللّه. وعندما حل وقت النشرة الأخبارية أشعل ذلك المواطن لفافة، وفتح تلفزيونه، وأصغى إلى خليط عجيب متناقض من الأخبار التي تبثها النشرة: هدم المنازل وتشريد الأسر في فلسطين المحتلة؛ مايكل جاكسون يحقق دخلاً سنوياً يقارب المئة مليون دولار؛ فيضانات في بنغلادش تقتل الآلاف وتشرد عشرات الآلاف؛ مسابقة لاختيار أجمل تسريحة للكلاب في الولايات المتحدة؛ استمرار المجاعة وانعدام السلطة في الصومال؛ اتهام وزيرين بريطانيين بالشذوذ الجنسي؛ حدوث زلزال شديد مدمّر في دولة آسيوية؛ محاكمة كلينتون بتهمة الكذب وإقامة علاقة جنسية مع مونيكا لوينسكي؛ ارتكاب عمليات قتل جماعي في إقليم كوسوفو؛ بيع ثوب للراحلة ديانا بمبلغ ثمانية عشر ألف دولار في مزاد علني؛ مقتل عشرات الأشخاص في حادثة انقلاب قطار في الهند؛ المكسيك تتمكن من صنع أطول شطيرة في العالم...
2 ـ بعد دقائق قليلة
عندما انتهى المواطن من مشاهدة إعلانات عن العلكة والمنظفات والفوط الصحية ذات الأجنحة أطفأ التلفزيون، ثم استلقى في سريره وأدار ظهره إلى زوجته، وأغمض عينيه وتظاهر بالنوم. لقد بدأت الآن أجمل لحظات يومه، والتي يسترخي فيها عبر أحلام يقظة، تتراقص فيها جميع الألوان المشرقة، فتغلف القرحة القاتمة التي تشكل هيولى حياته. كانت أحلام يقظته تتداخل أحياناً، وبخبث غالباً، فتموج فيها خيالات حصوله على قدرة أسطورية هائلة، تمكنه من إعادة هيبة العرب وكرامتهم، وتحجيم أعدائهم، وردع مستغليهم ومضطهديهم، وتحويل الأمة العربية إلى قوة سياسية وصناعية ومالية وعسكرية كبرى، تفرض رأيها ومشيئتها وعملتها واحترامها على العالم، وتتصرف وفق إرادتها، وتحقق العدالة والمساواة والرفاهية والحياة الكريمة لمواطنيها. ثم تلوح في مخيلته صورة زاهية، يحصل فيها كل شخص على بيت مريح له ولأسرته، ودخل يمكنّه من تذوق طعم بعض الكماليات، وسيارة متواضعة تريحه من زحمة المواصلات العامة. كان يعتبر أصحاب السيارات الفخمة كائنات غريبة قوية متفوقة من عالم آخر، يفصلها عن المشاة وراكبي الدراجات سور ضخم، لا يجرؤ على التفكير بالاقتراب منه. وفكر، ليت الدولة تمنح كل مواطن سيارة خاصة به، وتلغي وسائل النقل العامة، فتريح وتستريح. وعند هذه الفكرة اكتملت ألوان اللوحة، وبلغ ذروة الإحساس بالسعادة، فابتسم ابتسامة رضا، ثم استرخى في سريره واستغرق في النوم.
3 ـ تأملات في صباح اليوم التاسع والتسعين
تمكن المواطن 7386/5/م من اختراق الكتل البشرية، والصعود أخيراً إلى الحافلة المزدحمة، التي تنقله إلى منطقة عمله، ووقف محشوراً في الممر بين المقاعد التي احتلها أصحاب الحظ السعيد. كانت تقف بجانبه امرأة ثلاثينية ممتلئة، على وجهها دلائل ضيق من الازدحام، ولفت نظره الخط الفاصل المكشوف بين ثدييها المنتفخين، والذي بدا مغرياً وهو يطل من فتحة ثوبها، وبعد نظرة نشوة فضولية طويلة مشبعة استغفر اللّه ثلاثاً بقلبه، ثم حوَّل نظره مكتفياً نحو الشارع خارجاً. وعندما تحركت الحافلة المتخمة متثاقلة، استغرق المواطن كعادته في تأملاته الصباحية اليومية، وهو ينظر خارج الحافلة دون أن يرى شيئاً، ويسمع همهمة الركاب العالية دون أن يعي كلمة.
كانت رحلة الحافلة اليومية فرصة مناسبة له كي يستعيد في ذهنه بطريقة «الفلاش باك» كل ما يطفح به قلبه من هموم مختلفة الأشكال والأحجام. كان يلجأ إلى اللّه حين تشتد أزماته وتتراكم احتياجاته، ثم يعزي نفسه قائلاً «إن اللّه جلّت عظمته كان عادلاً في توزيع عطاياه على الناس. فقد منح بعضهم المال، ووهب بعضهم الجمال، وزين بعضهم بنعمة الثقافة والتفكير السليم، وقدم لبعضهم المناصب العالية، وأعطى بعضهم الصحة والمقدرة الجسدية». ومع ذلك فقد كان يجهد عقله دائماً، ويبحث عبثاً عن عطيته التي خصه اللّه بها، ثم يُقنع نفسه أخيراً بأنه حصل على إحدى هذه النعم بالتأكيد، ولو في حدها الأدنى. ويحمد اللّه على كل شيء، وعلى أي حال، ويردد في قلبه مرتاحاً: «كم أنت عظيم يا اللّه! لقد خلقتنا، وزرعت فينا غرائز الجوع والعطش والرغبة والخوف. أكرمتنا بالقناعة والنسيان والأمل والصبر والقدرة على التحمل. جعلتنا نرجو رحمتك وعطفك، ونخاف غضبك وانتقامك. نحلم بأنهار العسل، وغابات الفاكهة، والحور الكواعب في جنتك. تدفعنا هذه التركيبة من الغرائز إلى محاولة اكتساب عفوك ورضاك، ونيل ما يوعد به الأبرار والصالحون، وتجنب سخطك وعقابك، واتقاء الحرق والتعذيب بنار الجحيم الأبدية».
4 ـ بعد نصف ساعة من صباح
اليوم التاسع والتسعين
وصل المواطن 7386/5/م إلى مقر عمله متأخراً ثلث ساعة. كان سجل التوقيع مغلقاً على طاولة رئيس الشعبة، استعداداً لإرساله إلى رئيس الدائرة. اقترب من رئيس الشعبة، وألقى عليه تحية الصباح بابتسامة نفاق وتملق. ورد رئيس الشعبة التحية بهمهمة لائمة، ونظرة غاضبة، وتجهم متحفظ يليق بمنصبه. ثم ألقى عليه محاضرة موجزة، حول الالتزام بمواعيد العمل، والتقيد بالنظام. ومع كل كلمة كان المواطن يهز رأسه تصديقاً لما يسمع، ويتمتم بكلمات آلية، كررها عشرات المرات قبل اليوم، تتضمن الوعد بالطاعة ومحاولة عدم تكرار ذلك الذنب. وكان ينظر خلال ذلك بطرف عينه، ودون أن يتعمد بالتأكيد، إلى الطاولة الشاغرة المجاورة لطاولة رئيس الشعبة، والتي لا يشغلها صاحبها، في أحسن الأحوال، أكثر من ساعة أو ساعتين في اليوم. ولم يجرؤ على مجرد التلميح إليها، ليس خوفاً من رئيس الشعبة، بل خوفاً من أن يصل تلميحه إلى صاحب الطاولة الشاغرة.
وأخيراً تكرم رئيس الشعبة بفتح السجل، والسماح له بالتوقيع. وعندما جلس المواطن إلى طاولته، كانت تتراقص في مخيلته سلسلة «تسليك» الأمور ذات الحلقات الذهبية. وفكر هل هي وسيلة لتسليك الأمور فعلاً، أم أنها جزء من تركيبة راسخة فوق مستوى فهمه. وتتالت حلقاتها في ذهنه: الولد ينافق أمه ويتملقها لنيل مطالبه. الأم تنافق زوجها وتتملقه لاتقاء غضبه وسخطه. الأب ينافق رئيس شعبته ويتملقه لكسب رضاه وتجنب عقوبته. رئيس الشعبة ينافق رئيس الدائرة ويتملقه كي يضمن الاستمرار في منصبه. رئيس الدائرة ينافق المدير العام ويتملقه، لأنه اعتاد منذ زمن طويل على السخاء بالنفاق والتملق، نحو من هو أعلى مرتبة أو أقوى سلطة منه.
توقف مرعوباً عن متابعة السلسلة عند هذه الحلقة. وبدأت يداه بالارتجاف، وقلبه بالخفقان، وأمعاؤه بالقرقرة. وبسرعة سحب أعلى المصنفات على طاولته، وفتحه، وتمتم في قلبه: «استعنا على الشقاء باللّه».
5 ـ ضحى اليوم التاسع والتسعين
تناقص إلى حد كبير تتابع دخول المراجعين، وأصحاب المعاملات المتراكمة، فأشعل المواطن لفافة، وراح يمتصها بلذة مع آخر رشفة من قهوته. اقترب منه كهل تجعدت ملامحه بقلق راسخ مقيم، واكتئاب قديم مزمن. مد الكهل يده التي تحمل مصنفاً، بحذر مترقب ونظرة مستكشفة، ووضع المصنف على طاولة المواطن، ونظر إليه وهو يتكلف ابتسامة تملق ورجاء. فتح المواطن المصنف، والتقت عيناه بورقة من فئة المئة ليرة، تجثم بثقة وتحدٍّ وكبرياء فوق الأوراق المتراصة داخل المصنف.
كان عليه اتخاذ القرار بسرعة. تنازعته عبر ثوان طويلة ثقيلة ردود فعل متنوعة ومتناقضة، من البهجة المفاجئة، والخوف من العاقبة؛ من الحاجة المذلة، والرادع الديني. ارتاح لمرأى الورقة الزرقاء الفاتنة، وشعر بأنها تغمزه بإغراء. انقبض قلبه، مع ومضة عبرت ذهنه، حول الإثم الذي تحمله هذه الشيطانة اللعينة المغوية، وراوده ركن نقي في تفكيره على رفض هذا الإغراء، وإعادة المصنف بصمت إلى صاحبه، واستبعد كشف الأمر أمام بقية الموظفين وإثارة فضيحة.
ونظر بطرف عينه إلى زميله على الطاولة المجاورة، كان ذلك الزميل بارعاً في طلب «الإكرامية»، كما يدعوها، بصورة مكشوفة تصل أحياناً إلى درجة الوقاحة والصفاقة. صحيح أنه «فعلها» بضع مرات، تقل كثيراً عن زميله، كان يشعر في كل مرة بأعراض غريبة في بطنه، وتنميل متزايد في قلبه، ورجفة متعرقة في يديه. وفي تلك اللحظة، تسلل أمام عينيه خيال فروج مشوي طالما تأمله وهو يتجول في السوق، وحلم بأنه ينهش أوصاله بتلذذ غامر، ويمصمص عظامه الطرية حتى آخر نُثارة من اللحم فيها. وفكّر: «لكن هذه الورقة لا تكفي ثمناً لهذا الفروج الحلم… فليكن نصف فروج إذاً مع الحمُّص والمخلّل. المهم أن أحقق عيّنة صغيرة من الرغبة، وأتذوق واقع حلم طال أمده». غطى منظر الفروج المشوي كل تفكير مغاير، أو رادع من أي نوع. وشعر برائحة الفروج المشوي تملأ قلبه وذهنه، وتغطي كل أمر آخر. وبسرعة وخفة فتح درج طاولته، وأسقط الورقة الزرقاء داخله، وتظاهر بتصفح أوراق المصنف، ثم دسه على الطاولة مع المصنفات الأخرى، وتنهد بارتياح ورضا، وبعض الإحساس المكبوح بالإثم.
6 ـ بعد ظهر اليوم التاسع والتسعين
طلب المواطن 7386/5/م من بائع الفراريج أن يضع بضعة أرغفة إضافية، كي تتشرب الدهن والنكهة العطرة. وعندما خرج من المحل، وهو يؤرجح الكيس الذي احتوى على نصف الفروج وملحقاته، شعر كأنه يعلق بأصابعه جوهرة ثمينة لا يصدق أنه امتلكها حقاً. وتمنى لو يتمكن من الطيران كي يصل بحمولته اللذيذة إلى زوجته وولديه، المتبقيين بعد زواج بناته الثلاث. ولمعت في رأسه فكرة مجنونة بأن يركب سيارة أجرة، كي يصل بسرعة إلى البيت، لكنه زجرها بقسوة، فالليرات المئة تبخرت كلها أمام سيخ الفراريج الملتهبة، ولا بد من ركوب الحافلة أو السير. واختار السير خوفاً على كيسه الغالي من التعرض للضغط والتشويه، وربما الانبعاج والسقوط، في ازدحام الظهيرة. وراح يتلفت حوله خلسة خلال سيره، وهو يشعر بأن بعض الناس ينظرون إليه وإلى كنزه الفواح بغبطة، وربما بحسد. وجعله هذا يحس باعتزاز طغى على إحساسه المديد بالذل والانكسار.
عندما دخل بيته نادى زوجته وولديه، وفتح الكيس الحلم على الطاولة بنشوة، وراح يعد المائدة السخية معهم، ثم بدأ يوزع أوصال الفروج الساخنة الشهية عليهم، ويتلذذ برؤية أيديهم وهي تتخاطف قطع الخبز المتشربة بالدهن، ووجوههم التي غسل عنها عطر نصف الفروج ومذاقه لطخات حرمان متأصلة فيها. وقبل الانتهاء من تناول الغداء، حرص على إبقاء قليل من الحمُّص والمخلّل والخبز المتشرب بالدهن من أجل العشاء. ولا يضر القيام بملحق مسائي، ولو كان متواضعاً، لهذه المناسبة الفريدة من نوعها.
7 ـ بعد عصر اليوم التاسع والتسعين
استيقظ المواطن من قيلولته، وارتدى ثيابه بثقل. كان الامتلاء اللذيذ في معدته لا يزال يذكي فيها، وفي ذهنه، متعة انقضت بسرعة مثل لحظات السعادة الأخرى، ولم يظل منها إلا بعض من بقاياها، وذكرى نشوة يحاول إطالة أمدها. كان موعد بدء عمله الإضافي في المكتب الخاص قد اقترب، ولم يشأ أن يتأخر، فالعاقبة هنا لا تقتصر على اللوم، والتذكير بالنظام، لكنها قد تصل إلى الطرد، وبدون أي تعويض. وهو لن يتسبب في إغضاب صاحب المكتب، وفقدان العمل الإضافي الذي يرفد دخله ولو قليلاً.
كان يركب دراجته عندما يذهب إلى دوامه المسائي فقط، بدلاً من استخدام الحافلة. أما في دوامه الصباحي فلم يكن هناك مكان يضعها فيه، ويطمئن عليها من الضياع. وكان يحب دراجته، إلى درجة العشق تقريباً، ويحرص عليها، ويعتني بها، ويعتز بامتلاكها. وكثيراً ما عزى نفسه بأن هذه الدراجة لا تقل بأي حال عن السيارة. ألا يكفي أنها، كما يقولون، ترفع قدميه عن الأرض. بل إنها أفضل من السيارة، لأنها لا تكلفه ثمن وقود أو أجور إصلاح عالية. كما أن ركوبها مفيد للصحة، وبخاصة في سنه المتقدمة هذه. وقد رأى كثيراً من الأشخاص الهامين يركبون دراجة، ولو كان ذلك للرياضة فقط. وحين وصل إلى المكتب، تمتم وهو يدخل: «الحمد للّه على دوام الصحة والعافية».
8 ـ مساء اليوم التاسع والتسعين
عندما انتهى دوامه المسائي، لاحت في مخيلته، وهو عائد إلى البيت على متن دراجته، صورة بقايا الحمُّص والمخلّل والخبز المشرب بدهن الفروج المشوي، وشعر بمعدته تزقزق شوقاً لوجبة العشاء الشهية التي تنتظره.
أنهى المواطن 7386/5/م آخر لقمة من عشائه، وشرب جرعة ماء وحمد اللّه، ثم تجشأ واستغفر اللّه. وعندما حل وقت النشرة الأخبارية أشعل لفافة، ومد يده إلى مفتاح تشغيل التلفزيون. لكنه تردد، ثم أبعد يده، وأكمل لفافته. وعندما أطفأها توجه إلى سريره، واستلقى عليه، وأدار وجهه مبتسماً نحو زوجته. لقد كان هذا اليوم يوماً غير عادي، وربما لن يتكرر قبل مرور وقت طويل. وقرر تأجيل الاستغراق في أحلام يقظته، ومنح هذه المناسبة النادرة الاحتفال الاستثنائي الذي تستحقه.