المطر
من خلال الضباب الدخاني الأزرق.. أمضغ لفافاتي واحدة إثر أخرى.. ولا يزال القرع الرتيب يتوالى على زجاج نافذتي الصغيرة.. قطرات المطر تتصادم على حافتها العليا.. ثم تنساب باكية على خدها الزجاجي الصقيل.. والصراع على أشده.. صراع حبات المطر.. وعواء السماء الهادر.. والبريق الخاطف الحانق.. صراع أحمق فارغ.. لا يصلني منه إلا ضجيجه وأنا متنسك في صومعتي الصغيرة المعبقة بالدفء والدخان، والأحلام الفارغة..
يوم كامل قد مر.. ولا تزال السماء تبكي وتزأر.. وأنا مخبأ بين أغطيتي الدافئة.. الجامدة.. ميتاً.. لا حراك بي.. والبارحة.. يوم واحد فقط مر، كنت أصفع جوانب الطريق بقدمي الجاحدتين.. أختبيء داخل معطفي.. أحملق بالمربعات المنتظمة السخيفة.. والشقوق المستقيمة على الرصيف.. وتغلغلت يد صغيرة خلف ذراعي، واستدار رأسي.. مساء الخير.. رفيقتي العذبة.. ومضت تصفع الطريق مثلي بقدميها الطفلتين.. إلى أين في هذا الظلام؟.. وتمتمت شفتاي باختصار.. هائم.. وأنت؟.. وشدت على ذراعي برفق.. هائمة.. مثلك.. وانتظم صوت حذائها بضربات موقعة.. هائم.. وهائمة.. والشارع العريض يرتعش من البرد، هجره الناس، فانزوى إلى أحلامه بهدوء.. يقطعه بين حين وحين.. دوي سيارة هاربة..
كيف دروسك؟.. وانفرجت شفتاها اللذيذتان عن بسمة.. كعهدك بها.. وسكتنا.. وبدأنا نتمايل بخطواتنا.. نظرت إليها.. والتهمت بعيني وجهها الصافي.. كم راودتني رغبة منذ عرفتها أن أغفو بشفتي على صفحة هذا الوجه.. أغلغل أناملي في أغوار الشعر الليلي.. ودغدغت عنقي قطرة ماء، ورفعت عيني.. سيبدأ المطر.. هل نعود؟.. وهتفت بمرح.. لا.. نزهة تحت المطر.. تطربني.. هيا نسرع قليلاً.. وعانقت يدها ذراعي بقوة.. والتصقت بي.. واندفعنا.. المطر ينقر رأسي، قطرة، قطرة.. وتجتمع القطرات ثم تنساب بمظاهرة على جسدي.. وخلال شقوق ثيابي، فتبعث بي قشعريرة برد لذيذة.. أرتعش لها بنشوة عذبة.. وأحسست بصديقتي ترتعش.. وهمست.. إنكِ ترتجفين.. وابتسمت.. لست أدري لماذا.. فأنا لا أشعر بالبرد.. إنني منتشية.. والتجأنا إلى شجرة حانية بطرف الطريق.. ووقفنا عندها.. كنت قد بدأت بالارتعاش وفمي قد جف.. واقتربت منها.. وتعبدت شفتاي في محراب وجهها.. واشتد الطرق في رأسينا وانهار المطر سيولاً فوق جسمينا الثائرين..
هدأت حدة المطر.. وكنا قد عبرنا الشارع صامتين.. لا ينظر أحدنا إلى الآخر كأننا متخاصمان.. وقطعت صمتنا الثقيل متمتمة.. هل تحبني؟؟.. وحرت.. لست أدري.. لا.. لا أحبك.. لست سوى صديقة لي.. وافترقنا.. ولا يزال المطر ينهمر.. وأنا في قوقعتي.. يحيطني الضباب الأزرق.. هل أحبها.. أتراني بقبلتي قد وقعت عهد بحبها.. هل إذا ارتعشنا تحت أنهار المطر.. وتركنا نفسينا تشعران بلذة الرعشة.. لحظات قليلة.. ثم انقضت.. هل رسمنا حياتينا في هذه اللحظات الراعشة.. لا.. لست أحبك كحبيبة.. لست في قلبي سوى صديقة.. وكصديقة أحبك..
لا يزال القرع الرتيب يتوالى على زجاج نافذتي.. نافذة سجني الصغير.. وأنا أستنشق الدخان.. لفافة إثر لفافة.. والسماء تبكي بغصة حاقدة.. أزيزها يتدحرج عبر الغيوم السوداء.. قطرات المطر تتصارع على نافذتي.. ورأسي يدور.. متشبثاً ببقايا حلم ولى.. وذكرى قبلة راعشة في ليلة ممطرة..