ذبابة.. على شارب ستالين
نصف مثقف، وربع سياسي، و(نسونجي) متقاعد هذا أنا..
أما لماذا، نصف مثقف، فلأنني انصرفت عن كتب الثقافة والمعرفة بعد أن اكتشفت أن ما طالعت منها، على كثرته، لم يضف شيئاً إلى ماكنت قد قرأته في إلياذة هوميروس.
أما لماذا، ربع سياسي، فلأنني بدأت النضال السياسي مبكراً وهجرته مبكراً.. بدأت من مقاعد التجهيز… كان ذلك أيام حكم الشيشكلي.. اعتقلونا من الصفوف أنا وثلاثة من الزملاء، وأستاذ اللغة العربية.. كانت التهمة توزيع مناشير ضد الشيشكلي بين الصفوف… نقلونا إلى ثكنة الهجانا (حرس البادية)، وسلمونا لرقيب بدوي لا يعرف ربّه إلا من خلال عود الرمان الذي انهال به على أقدامنا الموثقة بحامل البندقية بعد أن بللها بالماء… كل واحد مئة جلدة.. كسّر على أقدامنا حزمة من غصون الرمان ذات العقد، وكان صراخنا يختلط بهمهماته وهو يجلدنا متجبراً، ويشتمنا متشفياً، وكأنّ بيننا وبينه ثارات منذ جاهلية العرب… ولما كان ذلك الرقيب هو الذي تولى جلد جماعة الشيشكلي بعد سقوطه، فقد طلقت السياسة، وكان ذلك أول وآخر عهدي بـ (النضال السياسي)، ولهذا فأنا كما قلت لكم: ربع سياسي..
نصل إلى الثالثة:
نسونجي: متقاعد:
غادرت قريتي في شبابي إلى دمشق.. لا أدري إن كنت قد حدثتكم عن ذلك في إحدى قصصي قبل الآن.. المهم.. كنت رومانسياً.. أبحث عن الدفء في عيني امرأة قبل أن أبحث عنه بين ذراعيها..
والتقيت الصبيّة التي كنت أحلم بها، أو هكذا توهمت.. فسحبت قلبي من صدري ووضعته بين يديها.. ثم اكتشفت متأخراً –ودائماً نكتشف الحقائق متأخرين- إنها واحدة من بنات المدينة اللواتي يسبحن في أضواء التفاهة، فانكفأتُ على نفسي بين أفخاذ النساء، وأصبحت المرأة في حياتي مغامرة عابرة، ونلت لقب "نسونجي" بجدارة، وأنا ألهث وراء أسراب اللواتي تنغمش همساتهن في أذني، وهن يرسلن الكلام الشامي بغنج ودلال أين منه صخب نساء قريتنا المتصايحات حول التنّور.
***
نصف مثقف.. وربع سياسي.. و"نسونجي" متقاعد.. هذا أنا.. خذوني على قدر عقلي واستمعوا إلى مكاشفاتي التي سأبدؤها بتصريح خطير، أو قد يبدو اليوم هكذا بعد أن مزق المدعو ميخائيل غورباتشوف أوصال اتحاده السوفييتي في الوقت الذي كان يحل فيه ضيفاً على الأوروبيين الساعين إلى وحدتهم، ثم جلس يفاوض أخلافه على مخصصاته من راتب وسكن وسيارات وحرس، قبل أن يوقع الاستقالة ويذهب مع زوجته الحمراء (بالشكل فقط) لزيارة اليابان ووضع إكليل من الورد على نصب ضحايا قنبلة هيروشيما.
أما التصريح الخطير فهو أنني كنت أحب المدعو جوزيف ستالين.. لا أدري كيف.. وليس الآن.. كان ذلك منذ أربعين سنة.. قالوا أنه هو الذي هزم النازية لم يكن يبدو لي بهيئة دكتاتور كما تأكدنا بعد كشف أوراقه وأسرار قصر الكرملن أيام حكمه.. كان يبدو لي، حتى وقت قريب، بشاربيه العتيدين مثل المطرب نصري شمس الدين وهو يتهيأ ليطلق الـ (أوف) على المسرح.
أنا لا أحب الخفايا التي يكشف عنها بعد مرور أربعين سنة، مثل وثائق الخارجية في بلاد الإنكليز. فعملية الكشف هذه تسبب لنا فجيعة متأخرة تجعلنا نشكك في كل مايجري حولنا في هذا العالم، ونتخيل ما سيكشف من خباياه بعد أربعين سنة…
من هنا، كان عزوفي عن قراءة الصحف اليومية التي لا تحكي إلا في (الآتي).. إلى الدوريات الفكرية التي تستذكر الماضي، وتحلل الحاضر، وتستقرئ المستقبل..
قالوا لي: إذا أردت أن تعرف أسباب سقوط الماركسية اشتر عدد نيسان من مجلة (الناقد)، واقرأ مقال كاتب مهم بعنوان: (المثقف وسقوط الماركسية) ولما كانت الناقد غير ممنوعة التداول في بلدي، فقد ذهبت إلى المكتبة واشتريتها بخمسين ليرة… ثمن أوقية لحم (الأوقية في بلدي مائتا غرام)… يا بلاش…
قرأت المقال الذي بعنوان (المثقف وسقوط الماركسية)، مرتين بصفتي نصف مثقف وأربع مرات بصفتي ربع سياسي؛ ولا مرة بصفتي (نسونجي متقاعد)، فليس فيه ذكر أنثى واحدة… حتى الطيبة الذكر فالنتينا تريشكوفا، أول رائدة فضاء تحقق ما وصف به شاعر سوري قومي إحدى قياديات حزبه في الخمسينات عندما قال:
لأوّل مرة..
تطرق أنثى…
طريق المجرّة..
وتهتف أني… كالشمس حرّة
……
أخذنا الحال أليس كذلك؟.
لنعد إذن إلى موضوعنا:
قرأت المقال، وخرجت منه بمقولة –أيضاً على قدر فهمي- تؤكد أن المشكلة ليست في الساسة، ولا في العسكر، ولا في البروليتاريا (ماذا يسمونها بالعربية؟)، وإنما هي في المثقفين..
وتشاء المصادفة أن تدعم هذه المقولة بما قرأته في مقال افتتاحي طويل عريض كتبه رئيس التحرير في العدد نفسه بعنوان (إني أتهم) عن معاناته مع الأدباء و(الأدباء مثقفون أو هكذا يفترض بهم) عندما قال:
-"إن مشكلتنا، كما توهمت، لم تكن أبداً مع السلطة، فمواقف السلطة كانت دائماً واضحة، فإما أن تكون معها أولا تكون، ولكن مشكلتنا الحقيقية كانت مع الأدباء الطامحين إلى أن يكونوا كتاباً عند أية سلطة".
إذن.. هذا هو بيت القصيد.. أو (هون حطنا الجمّال). كما كان يقول مختار قريتنا في جلساته الأنيسة على لبّاد الربعة، قبل أن أغادرها إلى دمشق…
***
مرّة ثالثة خرجنا عن الموضوع..
أنا لا أصدق أن ستالين هو الذي قاد هزيمة النازية، هكذا تقول الوثائق والأسرار التي كشف عنها الستار مؤخراً، ولا أصدق أن غورباتشوف هو الذي أسقط المعسكر الاشتراكي (هكذا ستقول الوثائق التي سيكشف عنها بعد أربعين سنة) ولكني لا أصدق أيضاً مقولة كاتب المقال أن المثقفين معنيون، أكثر من السياسيين بما حدث، لأن المثقف –كما يقول- (ذلك العالم بالكليات، يجد نفسه إزاء ماحدث، مكرهاً على معاودة طرح الأسئلة الكبرى، بعد أن كان بدا في العقود الماضية، أن وظيفته قد تقلصت إلى مستوى الأسئلة الصغرى، هذا إذا لم تكن قد قسرت على الانحداد بإطار جزئي صرف).
لو كان هذا الذي أكتبه مقالاً أو دراسة، لدخلت في لعبة الرد والمناقشة والتنفيذ، ولكني أكتب قصة… والقصة لها شروطها الفنية التي لا يهادن فيها النقاد.
أعلن أسفي لأنني لا أستطيع أن أقول لكاتب المقال أن المثقفين كانوا ودائماً (مشحرين).. حتى ولو وسمناهم بأنهم مصممو الأيديولوجيات، لأنهم كانوا دائماً يلهثون وراء آثار المجنزرات، أو يفاجأون بفرمانات الباب العالي مسبقة الصنع… أما من تمرد منهم فلا يلقى إلا الموت أو السجن في أحسن الأحوال..
أزيحوا هذه الذبابة عن شارب ستالين وسترون كيف نحلق له على الصفر.