أحلام متشظيّة
تتعثر خطواتها وهي تسعى إلى النافذة.. تحس بانقباض يشد أضلاعها وكأن غمامة سوداء تقترب من سماء حياتها لتزيدها قتامة.. تشعر بنوع من التوجّس والقلق.. تطل من النافذة على ساحة الحي.. جو سديمي مغبر يغلف المدينة، لعله سبب هذه الكآبة التي تسيطر عليها هذا الصباح.. تشعر أنها بحاجة إلى البكاء.. الدموع محبوسة في مآقيها، تكاد تنفر من عينيها، ولكنها تجالد نفسها وتحبس الدموع..
لم يسبق أن داهمها مثل هذا الشعور المتأزم..صحيح أنها تعيش أياماً قاسية بين أبيها المتجبر الذي يهرب كل يوم إلى نارجيلة الكيف وهي لاتعرف من أي شيء يهرب، وبين أمها التي تحمل على عودها الناحل هموم الدنيا وهي لا تقوى حتى على الاحتجاج الذي يختنق في رقبتها الطويلة المعروقة.. ولكنها اعتادت هذه الحياة على أمل أن ينقذها خالد، زميلها في الجامعة، الذي وعدها بالزواج، من هذا الجحيم.. يتزوجها ويخرج بها من هذه الدوامة حتى لو عاشا في آخر الأحياء الفقيرة المتناثرة على التخوم الترابية بين الغوطة والمدينة.
وقفت تنظر إلى ساحة الحي، كانت هناك جوقات الأطفال تلعب بالكرة.. تتقافز وتتصايح.. تذكرت أنه يوم عطلة.. سعدت بمشهد الأطفال، ولكن سرعان ما ارتدت إلى غرفتها وهي تتذكر طفولتها وأحلامها الموؤدة بصورة مبكرة.. لم تعش طفولتها.. كانت الفرحة مخنوقة دائماً في صدرها الصغير، فحكايتها قديمة مع الأب القاسي والأم المغلوبة على أمرها..
خالد.. هو الأمل الأخضر الوحيد في حياتها.. سينقذها من هذه المعاناة.. ومن إصرار والدها على أن تأتيه كل يوم بـ (نارجيلة الكيف) يعب منها الدخان المسموم حتى الانطفاء.
أصبحت تلك النارجيلة رمز قهرها ومعاناتها.. وكم من مرة فكرت بأن ترفعها إلى أعلى بكل قوتها ثم تهوي بها على الأرض لتتحطم قطعاً متناثرة..
أين أنت يا خالد؟
وارتدت ثيابها مسرعة، وخرجت من البيت تلاحقها صرخات أمها:
-إلى أين يا مقصوفة الرقبة؟ اليوم جمعة، والجامعة في عطلة.
خرجت لا تلوي على شيء، فهي على موعد مع خالد في مقصف الجامعة موعد عاجل أصرّ هو على أن يكون في الصباح.
ماذا لديه هذا الشاب الذي ربطت جديلتها بيديه ووضعت أحلامها رهن إشارته.
جلست في المقصف، ولا يزال التوجس المشوب بالخوف ينغل في صدرها، هي تعلم أنه في أزمة قائمة.. أزمة تضغط بقسوة عليه وعلى أمثاله من الشباب وهم يعانون من الفاقة والحرمان، ويقضون أيامهم في البحث عن العمل للزواج من حبيباتهم.
ستقول له أنها مستعدة لأن تعيش معه على الكفاف.. على الحصير..
المهم أن يتوجا هذا الحب بالزواج وتخلص من المهانة اليومية التي تعانيها في البيت، ومن ذلك المشهد اليومي وهي تنقل لأبيها (نارجيلة الكيف) التي تكاد تسبب لها الإقياء..
خالد.. يا خالد.. أين أنت؟
وأطل خالد، يسير على غير عادته بخطى متثاقلة.. زاد توجسها وزاد قلقها وكأنها تنتظر حكماً بالإعدام.
-خالد.. ما بك؟
لم يتكلم.. ظل صامتاً وهي تحاول عبثاً أن تستقرئ ما في عينيه..
لم يسألها الأسئلة المألوفة التي يستقبلها بها عادة.. لم ينظر إلى عينيها..
وسقطت الصاعقة..
-سأرحل غداً..
وقبل أن تقف على التفاصيل، أحسست أن غبار الجو السديمي يزداد كثافة، وأن العصفور الذي كان يخفق في صدرها كلما التقته، قد اختنق.
وبكلمات قليلة شرح لها الأمر.. يريد أن يسافر إلى أحد بلدان الخليج بحثاً عن العمل.. ليس لديه أي مشروع جاهز.. مجرد مغامرة غير محددة بزمن ولا مضمونة النتائج.. حتى ثمن بطاقة السفر استدانه من أحد أصدقائه..
هذا يعني أنه قد يغيب شهراً، وقد يغيب خمس سنوات، وقد لا يعود.. هذا يعني أن أحلامها قد أصبحت مؤجلة، بل موؤدة بصورة مبكرة.. تماماً كأحلام الطفولة التي لم تعشها..
وفي طريق عودتها إلى البيت أحست أن الأناشيد قد ماتت، وإن الأغنيات قد أصبحت حشرجات، وإن الطيور المغرّدة على الأشجار أصبحت دمىً متحجرة، وإن جوقة الأطفال الذين ما يزالون في ساحة الحي أصبحت مجرد عفاريت تضج في صخب المكان.
دخلت غرفتها.. وتمددت على سريرها الحديدي مقهورة.. لم تشعر بحاجة إلى الصراخ أو البكاء.. فقد أحست أنها بحاجة إلى النوم.. نوم طويل عميق لا تستفيق منه.. كانت متعبة لدرجة الإعياء.. وفي اللحظة التي بدأ الخدر يسري فيها إلى جسدها… تناهى إليها صوت والدها يصرخ: نوال.. هاتي النرجيلة.
هبّت مذعورة من سريرها، واتجهت نحو المطبخ، وحملت النرجيلة واتجهت إلى غرفة والدها، وقبل أن يمد يده ليأخذ النرجيلة كانت قد رفعتها إلى أعلى وهوت بها بقوة على الأرض لتصبح قطعاً متناثرة.