الثلاثاء الجديد
سحب أبو محمود لفافة الخبز والجبن المزنوقة في جيبه، واقتطع منها لقمة همَّ بالتهامها، ولكن يده جمدت في طريقها إلى فمه، عندما دخل الغرفة الأستاذ عبد الفتاح، معاون رئيس الديوان وقال له: المفتش الإقليمي يطلبك يا أبا محمود، إنه ينتظرك في مكتب المدير العام..
لم يصدق أبو محمود أذنيه فسأل مستفسراً: أنا؟
-نعم.. أنت.. أبو محمود.. الكاتب في ديوان الإحصاء.
-ولكني لم أفعل شيئاً؟
-ومن قال لك إنه سيحاسبك على شيء؟
-لماذا يطلبني إذن؟
-لا أعرف..
-ولكني لم أرتكب مخالفة مسلكية أو قانونية، إنني أحضر إلى المكتب أول واحد، وأكون آخر من يغادره، ولم تنم في درج مكتبي معاملة واحدة إلى اليوم التالي، فلماذا يطلبني المفتش دون غيري ولمّا يمض على وصوله من العاصمة سوى نهار واحد؟
-هذا مالا أعرفه.. هتف لي المدير العام وقال أن المفتش يريد أن يقابل أبا محمود، وما عليك إلا أن تتمثل لهذا الأمر.
لم يجد أبو محمود بداً من الامتثال، فوضع لفافة الخبز في درج مكتبه، وسوَّى من هندامه، وسار إلى الباب، وقبل أن يخرج عثرت قدمه بحطبة يتيمة فضلت عن وقدة الصباح، وكاد أن يهوي لولا أن تمالك زمام توازنه، ثم خرج يحوقل ويبسمل مشفوعاً بصوت "سلوى" ضاربة الآلة الكاتبة التي تجاوره في المكتب: إذا كان الأمر ترقية فمناصفة، وإذا كان عقوبة فلك وحدك؟
وفي الطريق، بين دائرة الإحصاء ومكتب المدير العام القائم في بناية أخرى خلف الجسر، كان أبو محمود ساهياً عن كل شيء إلا عن التفكير في تأويل السبب الذي من أجله استدعاه المفتش دون غيره من الموظفين مع أنه آخرهم مرتبة وأقلهم مرتباً..
ماذا فعل؟
إنه لم يفعل شيئاً يستحق عقاباً من أجله، كما أنه لم يفعل شيئاً يستحق تقديراً أو ترقية..
وراح يستعرض بسرعة السنوات العشر التي قضاها كاتباً لمحاضر جلسات محكمة الصلح، ثم السنوات الأربع التي قضاها في تعداد الغنم بالمياومة، وأخيراً الشهور التسعة التي مرت عليه وهو في ديوان الإحصاء، فلم يقف عند نقطة مثيرة تستأهل اهتماماً..
لماذا استدعاه المفتش إذن؟
استبدت به الحيرة، وركبه قلق كبير، وعبثاً حاول أن يطمئن نفسه بأن الأمر لا يتعدى سؤالاً عابراً تقليدياً يلقيه المفتش عليه حول طبيعة عمله، ولكن المفتش قادم من العاصمة بمهمة تفتيشية، ولا يمكن أن يستدعي موظفاً لأمر غير ذي بال.. ومن جديد عادت الأفكار تتسلق جبهة أبي محمود باردة متعبة، لتتساقط كالعقارب الميتة، ثم تدب فيها حياة فتروح تؤدي المهمة بنشاط وهي تنهش أعصابه بنزق خبيث.
لعن يوم الثلاثاء.. إنه يتطير منه، لقد سبق حلت به عدة مصائب في يوم الثلاثاء. أضاع مرة مبلغاً من المال كان قد ادخره لشراء أثاث جديد للبيت في يوم ثلاثاء، وشب حريق في مطبخ بيته في يوم ثلاثاء، وكذلك زلت قدم زوجته أم محمود في الحمام وكسرت فقرة في ظهرها وكان ذلك في يوم ثلاثاء، وهاهو المفتش يستدعيه للتحقيق في هذا اليوم المشؤوم…
منذ الصباح كان نهاره عكراً، أجل.. إنه يتذكر ما حدث بالتفصيل، لقد استيقظ على صوت أحد الباعة الجوالين ينادي على بضاعته بصوت عال تحت النافذة، ولما طلب إليه أن يبتعد لم يهتم له، ونشبت بينهما ملاسنة كلامية، كادت تنتهي بعراك الأيدي… وعندما قدمت له زوجته القهوة، سقط الفنجان من يدها على السجادة القديمة فسالت منه القهوة، ولكنه لم ينكسر "لو انكسر لانكسر مع الشر" أكثر من هذا.. لقد صعد إلا الأوتوبيس وفي جيبه خمسون ليرة قطعة واحدة ولما طلب منه جابي الباص ثم التذكرة ناوله ورقة الخمسين فرماها هذا بوجهه وطلب منه قطعة صغيرة من ذوات الخمس ليرات، ولما قال له أنه لا يملك قطعة نقود صغيرة، طلب إليه الجابي أن يغادر الأوتوبيس فوراً، ولكنه لم يمتثل لإرادة الجابي لأن نزوله من الأوتوبيس يعني تأخره عن عمله الذي لم يتأخر عن موعده الصباحي يوماً واحداً..
وكاد الأمر يتطور إلى مالا تحمد عقباه لولا أن أحد ركاب الأوتوبيس عرف أبا محمود، فتطوع بأن يدفع عنه الليرات الخمس على أن يأخذها منه في دائرة الإحصاء التي يقصدها بدوره..
هذه الأمور المتعبة كلها حدثت منذ الصباح فقط، ومعنى هذا أن يوم الثلاثاء هو بحق يوم مشؤوم، ولا يعلم أحد بأية مصيبة أخرى سيفاجأ.
ومن جديد راح أبو محمود يفكر مهموماً حتى أن صدم أكثر من إنسان مار على الجسر دون أن ينتبه إلى نفسه، ولم ينقذه من تفكيره إلا صاحب "البوفيه" الذي في مدخل المديرية عندما سأله: هل صحيح أن المفتش طلبك يا أبا محمود؟ حتى هذا علم بالأمر؟ لا شك أنه في غاية الأهمية.
لم يتحدث إلى الرجل بل اتجه إلى الدرج ليصعد إلى الطابق الثاني، وفي الممر قابله مراسل المديرية فقال له: المفتش يطلبك يا أبا محمود؟
هرع إلى غرفة المدير وقلبه يضرب جدار صدره بعنف، وأمام الباب قال له كامل حاجب المدير: المفتش ينتظرك يا أبا محمود..
فرد بصوت متطامن ضعيف: طيب.. طيب.. سأدخل..
فقال الحاجب: انتظر حتى استأذن لك بالدخول..
وغاب داخل الغرفة دقائق ثم عاد ليقول: لقد طلب المفتش أن تنتظر قليلاً..
وقدم الحاجب كرسيه لأبي محمود، فشكره وبقي واقفاً، ثم ما لبث أن سأله: قل لي يا كامل.. ألا تعرف السبب الذي من أجله استدعاني المفتش؟…
-لا…
-لا تخفِ عني شيئاً.. أعدك بأنني سأتحمل الصدمة.. لقد مرت علي مصائب كثيرة قبل الآن..
-ماذا تقول يا رجل؟.. أية مصيبة هذه التي تتحدث عنها؟
-لماذا يستدعيني المفتش إذن دون غيري من الموظفين؟ ألا يحتمل أن يكون أحدهم قد دس عنده دسيسة؟
-توكل بالله يا شيخ.. الموظفون كلهم يحبونك، وليس لك عدو واحد، كما ليس بينهم أحد يمكن أن يدس عنك دسيسة، وكذلك المدير، إنه يحترمك ويحبك ويعتمد عليك في أكثر الأمور.
-وهل المدير في الغرفة؟
-أجل.. إنهما مجتمعان، هو والمفتش، منذ الصباح.
-وكيف كان وجه المفتش عندما أخطرته بقدومي؟.. هل عبس فوراً؟
-أبداً.. لقد كان وجهه طبيعياً، بل إنه أبدى بعض الاهتمام الطيب عندما سمع اسمك..
-والمدير؟
-هو الآخر طبيعي..
-قلبي يحدثني عن قرب وقوع كارثة…
-لا أعرفك متخاذلاً يا أبا محمود، ثم هل أنت مدان بشيء حتى تخشى المفتش؟
-لا والحمد لله… سجلي الذاتي نظيف، ليس فيه عقوبة أو ملاحظة.
-إذن اطمئن.. لن يحصل إلا الخير..
ظل أبو محمود قلقاً، رغم محاولات الحاجب في تطمينه، إنه لا يصدق أن الأمر مجرد دعوة تقليدية من المفتش لأحد الموظفين..
ولكنه الثلاثاء؟
" لا تمنِّ نفسك يا أبا محمود بالوعود الخلابة.. إنك في اليوم المشؤوم.. في يوم الثلاثاء.. هل نسيت؟…"
حقاً.. إنه اليوم المشؤوم.. إذن لابد أنها مصيبة جاء يحملها هذا المفتش من العاصمة لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. لا شك أنها مصيبة.
وتنبه أبو محمود إلى نفسه على صوت الباب يفتح ليخرج منه المدير ويقول للحاجب: سأعود بعد قليل…
ثم يلتفت إلى أبي محمود، المفتش يريد أن يراك يا أبا محمود.. ادخل إنه بانتظارك..
* * *
لم يكن أبو محمود ليتصور أن المفتش بهذا اللطف، وآخر ما كان ينتظره منه هو هذه الابتسامة، حتى حديثه كان لا يختلف عن حديث جاره أبي سليم وهو يطلب إليه أن يرافقه إلى المقهى ليشرب معه فنجاناً من الشاي.
قال المفتش: علمت يا أبا محمود أنك خبير بمنطقة البدو الرحل، لقد قرأت تقريرك عنهم.
-أجل سيدي..
-عال.. لقد قررنا أن نستفيد من خبرتك هذه، وعليك أن تكون مستعداً للسفر خلال أسبوع.
-أسافر؟ إلى أين؟…
-إلى البادية.. سنقيم هناك مخيماً نجعله مركزاً دائماً للإحصاء، علينا أن نقوم بإحصاء البدو الرحل في المنطقة كلها تمهيداً لاستقرارهم.
-وهل سأكون وحدي هناك؟
-لقد عينا لك موظفين مياومين ليساعدوك في المهمة.
-ولكني…………………
-إنها فرصتك يا أبا محمود… هيا.. لقد قررنا أن نجعلك رئيساً لذلك المركز.