عزف منفرد
جرس الباب يرن.. أو هكذا خيّل لها… تنهض متثاقلة وبحالة من افتقد اللهفة إلى لقاء متوقع أو مفاجأة مرتقبة…
هل هو زوجها الذي يزورها بعد شهور من الفراق؟ هل هو هذا الذي يستأذن في الدخول بكل هذه الكياسة تكشف عن زيفها ابتسامة الخداع والمراوغة التي ترتسم على شفتيه؟
وقبل أن تأذن لـه، يقطع الممر الذي يعرف مساره إلى غرفة الجلوس.. لعله يريد أن يوحي لها بأنه يريد الجلسة حميمية…
يجلس في المكان نفسه الذي اعتاد أن يجلس فيه وهو ينادي عليها لتحضر له فنجان القهوة…
ويسألها فجأة: كيف الحال؟.
وتكاد تصرخ في وجهه: "كيف الحال وقد أضرمت النار في غابتنا الخضراء؟
كيف الحال وقد مزقت أوراقنا الزرق التي كنا نتبادل من خلالها حوارات المفاغمة الماتعة؟…. كيف الحال وقد طعنت القلب الذي كان ينبض على إيقاع حروف اسمك.. كيف الحال وقد خنقت في حنجرة طفلتيك النداء المنغوم وهما تستقبلانك بلثغة الهتاف: بابا.. بابا؟"
-أسألك: كيف الحال؟.
-أنا بخير مادمت بعيداً عني.. لماذا تريد أن تثير حقدي عليك بهذه الزيارة؟
-سامحك الله… أنت تظلمينني..
"لو تجسد الظلم في مخلوق لكنت إياه.. هل ظلمتك عندما اعتبرتك رجلي الذي يختصر في شخصه كل فرسان الحكايات والأساطير؟…
هل ظلمتك وأنا بين يديك مدنفة، محبة، وشريكة أليفة، وزوجة مصابرة وأم رؤوم؟.. حتى الصورة النمطية التي في ذهنك عن (الحرمة) التي تستقبل زوجها وقد شكت في شعرها وردة حمراء.. كنت أستقبلك بها لإرضائك"
-ألا ترين أنك كنت ظالمة وقاسية عندما جئت إلى دار أهلك وأوصدت في وجهي باب الحوار….
-لم يعد بيننا ما يمكن أن ينفع حوله الحوار..
-ألا تقدمين لي فنجاناً من القهوة.. أنت تعرفين نوع قهوتي..
"لو قرأت مثلي ذلك الشاعر لعرفت معنى ما قال لحبيبته عندما افترقا:
(بردت قهوتنا.. وانتهت قصتنا.. وانتهى الحب الذي كان).. ولكنك مع الأسف لا تجيد غير قراءة الفواتير وأرقام الحسابات".
-ماذا؟. ألا تقدمين لي القهوة؟..
-نحن نقدم القهوة للضيوف فقط…
-اعتبريني ضيفك…
-أنت لست ضيفي
-وماذا أنا بالنسبة لك؟
-ليست لك أية صفة…
-ماذا أفعل إذاً في هذا البيت؟
-اسأل نفسك هذا السؤال..
-أنا زوجك
-في وثيقة مكتوبة فقط.. رجوتك أن نلغيها
-هل أنت مصممة…؟
-أجل…
-أنت تغلقين أمامنا جميع الأبواب…
-والنوافذ أيضاً…
… وينهض…
-لك ما تريدين إذا كان هذا خطابك الأخير.. ولكنك سوف تندمين.
وتتنبه إلى نفسها وهي ما تزال تجلس على الأريكة في غرفة الجلوس…
-هل كانت في حلم؟ في غفوة؟. هل كان هنا أم خيّل إليها ذلك؟.
ولكنها سمعت رنين جرس الباب.. لا.. لم يرن الجرس.. وماذا يهم إن كان الرنين وهماً وزيارة زوجها حقيقة… المهم أنها قررت أن تنفصل عنه منذ أن حملت طفلتيها…وحملت قلبها المطعون وغادرت بيتها إلى دار أهلها…
وسرقتها التداعيات…
هذه المرة لم تكن في حلم… ولا في إغفاءة.. إنها تسترجع السيرة التي كانت تحاول أن تبعدها عن ذهنها دائماً… فليس فيها إلا الاستذكار المرير…
ولكن.. قد يأتي فجأة.. ويرن جرس الباب… ويقف يستأذن في الدخول بكياسة تكشفها ابتسامة الخداع والمراوغة التي ترتسم على وجهه…
ماذا يمكن أن تقول له.. لا شك أنه سيأتي معتذراً محاولاً إصلاح ما حدث…
هي تعرف أسلوبه المناور في الحديث وفي محاولة الإقناع في كل مرة يقدم فيها على تصرف يشيع الخلل في العش الهادئ… وفي حياتهما التي تصورتها شهر عسل على امتداد العمر..
وفي كل مرة كانت تغفر له.. كانت تعتبر ما يحدث عثرة عابرة من عثرات الرجال التي يجب أن تقيلها الزوجة الحكيمة… أما آخر العثرات فكانت أكبر من أن يقبلها سماح أو احتواء.. كانت غلطة العمر.. كانت سكينة حادة شكها في قلبها الذي ما خفق إلا باسمه منذ أن أصبحت زوجته تكرج بينهما طفلتان هما في البيت زينة الدنيا وفرحة العمر..
لا تنكر أنه لا يزال يحبها.. وأنه يحاول أن يغسل بإعلان هذا الحب خطيئته التي لا تغتفر.. ولكنها لا تتصور أن الجرح الغائر يمكن أن يلتئم….
لن تخدع بعد اليوم حتى بطريقته في النقاش والتي كانت معجبة بها وهو يحاول أن يدعمها بإيحاء من حركات يديه بالإضافة إلى الكلمات المعسولة التي كان يسكبها في أذنيها…
لم تكن لتتصور أن هذا الزوج الشاب المحب يمكن أن يخدع أن يخون..
حتى في متاعب الحياة اليومية ومسؤولية البيت والأولاد، كانت تأنس في نفسها وقتاً.. تحلم فيه بعصافير صغيرة تغزل لهما بمناقيرها كل يوم عشاً جديداً وأحلاماً وردية تملأ به سلالاً صغيرة تسعد بها قلوب الناس الذين حولها…
ويوم ولدت طفلتها الأولى…أحست أن حياة جديدة بدأت في الكون…
وأن المولودة الجديدة… ستدفع المزيد من الدفء إلى هذا العش…
واكتملت لوحة الأسرة السعيدة بالمولودة الثانية… وكان هو سعيداً بالطفلتين وخاصة عندما بدأتا خطواتهما الأولى… وكلماتهما لأولى وهما تهزجان لدى رؤيته: بابا… بابا…
وتوالت أيام حياتهما مثل لوحات ربيعية في معرض الطبيعة… شلالات رائعة.. وسواقٍ منسابة…. وزهور متفتحة… وحملان متراكضة… ومنمنمات ملونة وطيور صادحة… وأفنان متعانقة ومروج خضراء…
من قال ان الحياة تصبح يابسة بعد الزواج؟.. من قال ان الحب ينتهي؟
من قال ان الأيام تصبح رتيبة وان الليالي تصبح مجرد غلالات سوداء؟..
ماذا سيقول عندما يعود؟. هل سيقول ان حكايته مع المرأة الأخرى هي مجرد نزوة؟.
وهل من السهولة أن يسحب من قلبها السكين الذي تغلغل فيه حتى الشغاف؟..
هل تقبل اعتذاره وإعلانه الهزيمة أمام نبل عواطفها؟
وهل يمكن للوحات المعرض الربيعي أن تعود متألقة بعد أن دمرها الزلزال المفاجئ فأسقطها من الجدران ليدفنها في تراب الأنقاض؟
ثم لماذا انقطع عنها كل هذه المدة؟ هل يريدها أن تبادر إلى كسر الجفاء؟
أم يريدها أن ترفع الراية البيضاء معترفة بأنهما يمكن أن يتجاوزا الأزمة دون الوصول إلى نقطة اللاعودة..؟
هربت من الأزمة إلى المطالعة… إلى رحلات طويلة في بطون الكتب…
إلى القصص والروايات.. ومع طي الصفحة الأخيرة من كل قصة أو رواية…
كانت الأحداث التي تضمها دفتا الكتاب، تتطامن أمام حكايتها وتتساءل:
لماذا لا يأتيها الكتاب والأدباء لتروي لهم حكايتها… فيستبدلونها بكل ما كتبوا، وينقلون لقرائهم حكاية حب عظيم بين رجل وامرأة… طعنه الرجل فتهاوى لديه… وظل لديها عزفاً منفرداً على مدار القلب… على تداعيات الانكسار!
لماذا يتخيل الكتاب قصصاً من أفكارهم ولا يستلهمون أبعاد هذه القصة الواقعية المتفردة؟..
أجل.. إنها متفردة في رأيها.. فليس هناك من مبرر لسقوط هذا الرجل في حمأ الخيانة وأمامه امرأة تحوطه بكل هذه العواطف الجياشة والرعاية الحانية…؟
وانصرفت عن الكتب والقصص والروايات…وعادت تلوك فصول قصتها بمرارة… وتحاول أن تتجاوز محنتها…!
-لماذا كل هذا الضعف؟ وهل أنا أول امرأة خانها زوجها…
إذاً.. لابد من التماسك.. لن أدعه يهزمني.. ولن ينتهي العالم إذا انتهى ما كان بيننا..
سأمنح حبي لهاتين الطفلتين فقط.. من أجل مستقبلهما.. ولن أشوه صورة والدهما في نظريهما عندما تصبحان على درجة كافية من الوعي.. سأجد ألف حجة لتبرير فراقي عن والدهما…
لن أندم على قرار الفراق الذي اتخذته.. ولن أسمح للحب أن يجعل كرامتي مهانة.. أجل الكرامة.. وليست الغيرة العمياء كما يطيب له أن يقول…
أما الجراح الأخرى فالزمن هو الذي سيداويها.. قد يترك مكانها بعض الندوب ولكن النزف سيتوقف…
لن يلقى لدى المرأة الأخرى ما كان يلقاه عندي.. ستكون هزيمته كاملة وهو الذي سوف يندم.. ولن ينفعه الندم… لأنه سوف يخسرني إلى الأبد وسوف يخسر النداء المنغوم الذي تطلقه طفلتان.. عندما لن يتاح له أن يراهما إلا لماماً…
لن أجعله يقتلع قلبي ويقدمه هدية ملفوفة بأوراق حبنا الزرق للمرأة الثانية"
واستلقت مسترخية على الديوان وهي تشعر بأنها قد حققت الانتصار الأخير بقرارها الحاسم بعدم العودة له…
هي القائد المنتصر في معركة الحب، وهو الخصم المهزوم… من حقها أن تداعب أوردة عنقه بسيفها المسلول… تقتله أو تعفو عنه.. لا… لن تقتل الأرنب المذعور، ولن تجعله يشعر بحقيقة كبريائها الجريح.
عندما يأتي ويستأذن في الدخول ستقف في وجهه شامخة، وترمي له بخاتم الزواج وتطرده من البيت، وتذكره بأن ليس أمامه إلا الطلاق…
فقد… (بردت قهوتنا.. وانتهت قصتنا… وانتهى الحب الذي كان).. هكذا قال الشاعر الذي لم يقرأه وهو الذي لم يهتم إلا بالفواتير والأرقام والحسابات.
---------------------
جرس الباب يرن… تهرع الطفلتان قبلها إليه.. تفتح الكبرى الباب…
ينطلق النداء المنغوم من الطفلتين معاً.. بابا… بابا… اجا بابا…
يدخل دون استئذان.. يتوجه إلى مكانه المعتاد في غرفة الجلوس وهو يحتضن الطفلتين.. تقف أمامه صامتة.. لم يسألها عن حالها.. لم يعتذر لها… لم يقل انها ظلمته.. ولم يتهمها بأنها أغلقت في وجه باب الحوار…
ينظر إليها نظرة طالما استفقدتها… تحاول أن تتكلم… تخونها الكلمات…
تتردد لحظة ثم تنطلق إلى الداخل وتعود فتضع أمامه فنجان القهوة الذي يتصاعد منه البخار…