ذو الوجه المستطيل
كان الأمر الغريب الوحيد الذي رأيته في حلمي تلك الليلة، هو ذلك الرجل النحيل بوجهه المستطيل، الذي يشبه في استطالته وجوه لوحات مودلياني. لم يكن الحلم مزعجاً كثيراً بحد ذاته، لكن الابتسامة الحادة التي ارتسمت على الوجه المستطيل، بشاربيه الرفيعين الطويلين المتهدلين، أثارت لدي كثيراً من الاستغراب والنفور والتوجس. فقد احتوت ابتسامته مزيجاً من التربص والسخرية واللؤم. كان واضحاً أن ابتسامته تلك مسددة نحوي وحدي، أما بقية الحاضرين فلم يبد مكترثاً بهم، أو شاعراً بوجودهم.
استيقظت صباح اليوم التالي، وقد نسيت أحداث الحلم كلها، باستثناء صورة صاحب الابتسامة، التي ظلت ملتصقة بذاكرتي. كان وجهه المستطيل، وشارباه الرفيعان الطويلان المتهدلان، وابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة تلوح في مخيلتي بوضوح يمكنني من رسم صورة الوجه بأدق تفاصيله.
حاولت أن أضحك من نفسي، وأنا أرتدي ثيابي، كي أمسح ما خلّفته تلك الصورة في قلبي من إحساس بالقلق. وخرجت الضحكة من شفتي مهزولة جافة مفتعلة، بينما ظل قلبي منقبضاً قلقاً مترقباً.
خلال المسافة التي تفصل منزلي عن مكان عملي تعمدت أن أركز نظري، وعقلي من ورائه، في وجوه الناس الذين يتتابعون أمامي، لعل صورة وجوههم تتراكم في طبقة ثخينة داخل ذاكرتي، وتخفي صورة الوجه المستطيل، لكن صورة تلك الوجوه كانت تدخل مخيلتي، وفي لحظة تفقد ملامحها، وتتحول إلى رقاقة شفافة، تزيد في وضوح الوجه المستطيل، بشاربيه المتهدلين، وابتسامته الحادة.
دخلت المصعد مع الداخلين، وانزويت في ركنه، مثبتاً عيني على الأرقام الضوئية بجانب الباب، بانتظار وصولي إلى الطابق العاشر حيث مكان عملي. عند الطابق الثالث شعرت بقوة خفية غامضة تحول نظري عن أرقام المصعد نحو رجل واقف بجانبي. وتضاعفت دقات قلبي، وهبطت ارتجافة باردة منه إلى ركبتي. كان ذلك رجل الحلم نفسه، صاحب الوجه المستطيل، ذا الشاربين الرفيعين الطويلين المتهدلين، وعلى شفتيه ارتسمت نفس تلك الابتسامة الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة. كانت عيناه تحدقان في عيني، بتفحص مدقق ثابت.
توقف المصعد في الطابق السابع، وخرج منه ذو الوجه المستطيل. كانت مقدرتي على التفكير والمحاكمة قد تعطلت عن العمل، منذ الطابق الثالث. شعرت لدى خروجه بومضة من الارتياح، وتباطأت نبضات قلبي، وخفت رعشات ركبتي، لكنني عجزت عن استخدام عقلي، في محاولة لتبرير ما رأيت، أو تحليله، أو ربطه بالمنطق والواقع.
دخلت مكتبي وجلست إلى طاولتي، لكن تفكيري كان محلقاً بعيداً عني، بين الطابقين الثالث والسابع داخل المصعد. كان قد انفصل عني في ذلك المكان، رافضاً الخروج معي في الطابق العاشر. فقد عودته منذ سنين على ربط الأمور بمعادلة صحيحة لا تحتمل الخطأ، والآن قد اختل توازن معادلته تلك، ولم يعد قادراً على الالتحام معي قبل التوصل إلى حل يعيد إليه صفاءه واسترخاءه.
انقضت ساعات الدوام الرسمي بدون أن أنجز شيئاً من عملي. وخلال هبوطي داخل المصعد حاولت إجراء مصالحة شكلية موقتة مع تفكيري، وأقنعته بعد جهد بالانضمام إلى صفي كي نتعاون معاً لمواجهة هذا الدخيل الطارئ الذي تسلل بيننا.
تمكنت تدريجياً من إعادة بعض الهدوء والارتياح إلى عقلي. لكن جسدي كان متعباً، وقدمي في حالة من الإرهاق تمنعني من مواصلة السير إلى منزلي، وأشرت إلى سيارة أجرة عابرة، وصعدت بجانب السائق، وهمست إليه بعنوان المنزل، وعيناي شاردتان في زحام ساعة الظهيرة، وعقلي تتناوبه لحظات من الكبت ومحاولة التمرد والانفلات. توقفت السيارة أمام البناء الكبير الذي أسكن إحدى شققه، ومددت يدي بالنقود إلى السائق، لكنها جمدت وكاد قلبي أن يجمد معها، وأنا أنظر إلى السائق ذي الوجه المستطيل بشاربيه الرفيعين الطويلين المتهدلين، وابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة.
فتحت باب منزلي ودخلت. كنت بحاجة إلى الارتماء على أقرب مقعد، لأريح جسدي، وأحاول من خلاله إراحة ذهني المجهد. مضت ساعة أو أكثر، وأنا أفرض على جسدي استرخاء قسرياً، فيقاومني بالتوتر اللاإرادي. كان الأمر قد تعدى مرحلة الصدفة وبدأ يدخل طور الإنذار الجدي المبهم. نهضت ودخلت غرفة النوم كي أبدل ثيابي. فتحت باب الخزانة، ومددت يدي أعلق سترتي. كنت أتحرك تلقائياً بالعادة والتكرار. ابتعدت عن الخزانة، واتجهت نحو السرير. ولحظة استلقائي داهمتني إغفاءة قصيرة متقطعة قلقة، أشبه بالغيبوبة أو الذهول.
استيقظت من إغفاءتي منهك الجسد والعقل. وتذكرت أنني على موعد مع صديق في المساء. قررت الاعتذار منه، وارتديت ثيابي ونزلت إلى غرفة الهاتف العمومي القريبة. وقفت خارجها بانتظار انتهاء شاغلها. وبعد عشر دقائق انتهى الرجل من مكالمته، واستدار ليفتح الباب ويخرج. وغرق جسدي في سيول من العرق البارد. كان ذاك هو رجل الحلم نفسه، بوجهه المستطيل، وشاربيه الرفيعين الطويلين المتهدلين، وابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة.
لا أذكر إن كنت قد اتصلت هاتفياً مع صديقي أم لا، لكنني أفقت من شرودي وأنا جالس من جديد في منزلي، أستعيد أحداث اليوم في ذاكرتي المجهدة. حاولت تغيير مسار أفكاري إلى اتجاهات مغايرة، لكنها ظلت تعود بقوة جاذبة تفوق قدرتي، وتحوم بإصرار عنيد حول محورها. وشعرت بأن الأمر قد انتقل إلى مرحلة التحدي بين إرادتي وأفكاري. وقررت استخدام وسيلة الإلهاء مع ذهني المتمرد، وفتحت التلفاز كي أقيّد بما أراه هذا التمرد. استرخيت في مقعدي، وثبتّ عيني على الشاشة الصغيرة لحظة قصيرة، انتفضت بعدها مندفعاً إلى الجهاز، فأطفأته، مبعداً عن عيني صورة صاحب الوجه المستطيل، والشاربين الطويلين المتهدلين، وهو يخترق بابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة شاشة الجهاز، فينفذ إلى أعماق عيني، ويستقر متخبطاً في معدتي.
لم يمهلني الغثيان الذي زلزل معدتي، وجريت إلى الحمام أتدارك الأمر... بعد لحظات شعرت أنني هدأت قليلاً. فتحت الماء قوياً ووضعت رأسي تحت تياره المنهمر. لم أدرِ هل كنت أغسل رأسي أم ما بداخله. وعندما أحسست ببرودة الماء أغلقت الصنبور، وتناولت المنشفة ورحت أجفف شعري ووجهي. انتعشت قليلاً، وأقنعت نفسي بأنني أقوى من هذه الأوهام والرؤى. وتمكنت أخيراً من السيطرة على ثورة أفكاري وتمردها.
تناولت فرشاة الشعر ورفعتها كي أعيد إلى شعري ترتيبه، وإلى ذهني هدوءه، ونظرت إلى صورتي في المرآة. وأصابني الذهول، وأنا أرى مكان وجهي وجهاً مستطيلاً، ذا شاربين رفيعين طويلين متهدلين، يحدق بي بابتسامة حادة متربصة ساخرة لئيمة.